في كل يوم، يُطرح السؤال نفسه في قاعات البرلمان، وفي النقاشات العامة: كيف نحقق الإصلاح المنشود في مجتمعاتنا؟ كيف نرتقي بأوطاننا نحو مستقبل أكثر إشراقاً؟ غير أن الإجابة، التي غالباً ما يتم تجاهلها أو إغفالها، تكمن في مكان آخر، بعيداً عن قبة البرلمان ودهاليز السياسة. إنها تبدأ من حيث تتشكل العقول وتصقل النفوس: من قاعات التدريس.
التعليم هو العمود الفقري لأي أمة تسعى للنهوض والتقدم. إنه القاعدة التي يبنى عليها المجتمع بكل فئاته ومؤسساته. فعندما نتحدث عن الإصلاح الحقيقي، يجب أن ننظر أولاً إلى المدارس والجامعات، حيث تتبلور الأفكار وتتشكل الرؤى. هنا، في هذه المؤسسات التعليمية، يُزرع الوعي، وتُغرس القيم، ويُعزز الفكر النقدي. إن التعليم هو الأرض الخصبة التي تنبت فيها بذور الإصلاح، التي تتطلب رعاية واهتماماً من جميع الأطراف.
لماذا التعليم أولاً؟ لأن التعليم ليس مجرد تلقين للمعلومات، بل هو بناء للإنسان. الإنسان الذي يقود المجتمع نحو الأفضل، الإنسان الذي يختار ممثليه في البرلمان بعقلية نقدية واعية، والإنسان الذي يستطيع أن يفرّق بين الحق والباطل، بين الصواب والخطأ. في قاعات التدريس، نتعلم ليس فقط المعارف العلمية، بل نتعلم كيف نفكر، وكيف نحلل، وكيف نكون مسؤولين عن قراراتنا.
قد يجادل البعض بأن الإصلاح السياسي هو الأولوية، وأنه يجب أن يأتي من القمة لينعكس على القاعدة. لكن، كيف يمكن أن يحدث ذلك إذا كانت القاعدة نفسها غير متماسكة؟ كيف يمكن للبرلمان أن يكون فعالاً إذا كان أفراده، الذين يمثلون الشعب، غير مدركين لأساسيات القيادة والحكم الرشيد؟ البرلمان ليس سوى مرآة تعكس مستوى الوعي والمعرفة لدى المجتمع بأسره. وإذا كانت هذه المرآة تظهر لنا عيوباً أو قصوراً، فإن الحل ليس في تغيير المرآة، بل في إصلاح القاعدة التي تعكسها.
إن الإصلاح التعليمي هو الطريق إلى إصلاح كل شيء آخر. عندما نمتلك نظاماً تعليمياً قوياً، سينعكس ذلك على كل جانب من جوانب الحياة. سيصبح لدينا قادة أكثر حكمة، ومواطنين أكثر فاعلية، ومجتمع أكثر تماسكاً وتقدماً. لذلك، يجب أن نعيد النظر في أولوياتنا: إذا أردنا حقاً إصلاحاً مستداماً، فلنبدأ من التعليم.
في النهاية، التعليم ليس مجرد قضية قطاعية أو موضوعاً أكاديمياً بحتاً، بل هو قضية وطنية بامتياز. إنه الشرط الأساسي لكل إصلاح، وهو المفتاح الذي يفتح أمامنا أبواب المستقبل. لنجعل التعليم أولويتنا، لأنه ببساطة، إذا أردنا بناء أمة قوية، فعلينا أن نبني عقولاً قوية أولاً. الإصلاح الحقيقي يبدأ من هنا، من قاعات التدريس، قبل أن يصل إلى قبة البرلمان.
* رئيس جامعة ال البيت سابقا.