أ.د.هاني الضمور
لا تكاد الأمة العربية تنهض من أزمة حتى تجد نفسها غارقة في أخرى، وبينما تتباين الأسباب المباشرة لكل محنة، يظل العدو الحقيقي ثابتًا عبر العصور: الخيانة والفساد. هذه الظواهر ليست جديدة على تاريخنا، لكنها للأسف تضاعفت في ظل انقسامات داخلية وتدخلات خارجية، فأصبحنا نعاني من آفات صنعناها بأيدينا أو سمحنا بنموها بيننا.
إن أحد أعظم دروس التاريخ هو أن الأمم لا تنهار أمام أعدائها من الخارج بقدر ما تنهار نتيجة خيانة من الداخل. ما حدث في الأندلس مثال صارخ على ذلك؛ مجد بُني على عقول العلماء وسواعد المحاربين، لكنه انهار بفعل خيانات بعض القيادات والطمع في السلطة. والأمر نفسه تكرر عبر التاريخ، فكم من مدن عظيمة سقطت تحت راية الخيانة قبل أن يصل إليها أي جيش أجنبي.
لكن لماذا تعاني الأمة العربية تحديدًا من هذه الآفة؟
الجواب قد يكون مركبًا، لكن أحد أسبابه الأساسية هو الانقسام الداخلي. لقرون، كانت النزاعات القبلية والطائفية والإقليمية تؤجج التفرقة بين شعوبنا، ما خلق بيئة خصبة للتآمر والخيانة. ففي ظل غياب الوحدة، تصبح المصالح الشخصية والحسابات الفردية أكثر أهمية من المصلحة الجماعية، ويصبح من السهل على الطامحين أن يبيعوا أوطانهم مقابل البقاء على كرسي الحكم.
شهوة السلطة واحدة من أكبر المحركات للخيانة. كم من قادة فضلوا التحالف مع أعداء الأمة على فقدان مناصبهم؟ كم من سياسيين قدموا مصالحهم الشخصية على مصلحة شعوبهم؟ شهوة البقاء في السلطة دمرت بلدانًا وأضعفت أمة بأكملها، حيث لم يعد المهم هو رفاهية الشعب أو سيادة الوطن، بل الحفاظ على الكرسي بأي ثمن.
إلى جانب ذلك، يأتي دور الجهل والفساد المؤسسي. في كثير من دولنا، انتشر الفساد على كل المستويات، من أعلى هرم السلطة إلى أبسط الإدارات. هذا الفساد صنع بيئة تسهل فيها الخيانة، حيث يُباع الولاء بأبخس الأثمان وتصبح الخيانة وسيلة سريعة لتحقيق المكاسب الفردية.
ولا يمكن إغفال التدخلات الخارجية التي وجدت في الانقسامات العربية فرصة ذهبية للتلاعب بمصائر الدول. القوى الكبرى استغلت هذا الوضع لدعم أنظمة وأفراد يضمنون مصالحها، حتى ولو كان ذلك على حساب سيادة الأمة ومصير شعوبها.
إن الخيانة ليست مسألة تتعلق بالفرد وحده، بل هي آفة تنخر جسد الأمة من الداخل. نحن بحاجة إلى مراجعة جذرية، تبدأ ببناء وعي جمعي يضع المصلحة العامة فوق كل اعتبار، وينبذ شهوة السلطة ويعزز الولاء للوطن. الأمة العربية أمامها خياران: إما الاستمرار في طريق التفرقة والانهيار، أو التعلم من دروس الماضي وتوحيد الصفوف لبناء مستقبل يتجاوز الخيانة والفساد.
ختامًا، الأمل لا يزال موجودًا، لكن علينا أن ندرك أن الطريق إلى النهضة يبدأ من الداخل. فالأعداء الخارجيون لا يستطيعون هزيمة أمة قوية من الداخل، أما الخائنون فهم بذور الدمار التي نزرعها بأيدينا.