جلستُ أمامها في تلك الغرفة المظلمة، حيث الضوء الشحيح يكشف عن سيدة عجوز تحمل السنين على وجهها كأنها صفحات كتاب قديم. كانت تجلس بوقارٍ، تتكئ على عصا عتيقة، فيما انحنت خطوط وجهها كحكايات قد قُصَّت مرات ومرات. عيناها، رغم بريقهما المتعب، كانتا تلمعان بذكاءٍ عتيق، كسراجٍ في ليلةٍ لا نهاية لها. كانت تمعن النظر إليّ وكأنها تقرأ شيئاً لم أتوقعه، شيئاً لم أرغب أبدًا في أن يعرفه أحد.
بدأت الحديث بنبرة كمن يسرد قصة قديمة، لا فرق عنده إن سمعها أحد أو بُعثت في زوايا النسيان، وقالت بصوتٍ هادئ:
“الدنيا، يا بني، تشبه يدي هذه… أتراها؟” رفعت يدها النحيلة، تتشابك فيها الخطوط كما تتشابك الأقدار. “كل خط هنا يمثل طريقًا، يمثل قراراً اتخذته دون أن أدري إن كان سيقودني إلى النور أو إلى الظلام. هكذا هي الحياة، ليست فقط ما تراه، بل ما يتوارى خلف ما تراه.”
ابتسمت، وفي عينيها لمحة تحدٍّ، كأنها تسألني: هل تفهم ذلك؟
أجبتها: “لكنكِ عرفتِ كيف تختارين الطريق الصحيح، أليس كذلك؟”
هزت رأسها ببطء، وكأنها تعيدني من حيث جئت، وقالت: “لا أحد يعرف حقًا. كلنا نسير كالعميان، نبحث عن ضوءٍ في نهاية نفقٍ لا نرى نهايته. أحيانًا، نختار الطريق الذي نظنه صحيحًا، فنصدم بأنفسنا، وأحيانًا نرمي بأنفسنا في الهلاك، فنجد فيه الخلاص. هذا يا بني، هو سر الحياة.”
صمتت لوهلة، ثم تابعت: “والغريب في الأمر، أن البشر لا يتعلمون، ليس لأنهم لا يريدون، بل لأن الحياة مليئة بالتكرار، كأوراق شجرة تسقط وتعود لتحيا في الربيع، تتكرر الأخطاء، ومعها الألم، ومعها الأمل. في النهاية، نحن كالأشجار، نظل نقاتل لننمو، بالرغم من الرياح العاتية، بالرغم من السنين.”
جلست أفكر في كلامها، شعرت وكأنها لا تتحدث فقط عن نفسها بل عني، وعن كل إنسان مضى على هذا الكوكب. قلت لها بجرأة: “أليس لنا أن نختار، أن نقرر مصيرنا؟”
أجابت وهي تبتسم تلك الابتسامة التي جمعت بين الحكمة والشفقة: “نعم، نختار، ولكننا نختار ضمن حدودٍ رسمتها لنا الحياة. نحن نسير بين تلك الحدود، نحاول، نثور أحيانًا، نرضى أحيانًا، لكن الحقيقة البسيطة التي ينكرها الكثيرون هي أن العالم أكبر منا، والأقدار أسرع منا، والعمر أقصر مما نود.”
بقيتُ صامتًا بعدها، وكأنني لا أحتاج لأي كلمات أخرى. غادرت مكانها، وأنا أشعر بأنني سمعت للتو درسًا يختصر سنين طويلة من الألم والحكمة، درسًا لا ينتمي إلى زمانٍ ولا إلى مكان، بل يتحدث إلى شيء في داخلي لم أكن أعلم أنه هناك.
وقبل أن أذهب، قالت لي العجوز بصوتٍ هادئ وكأنها تعرف ما في قلبي:
“إن كنت تبحث عن اليقين، فلا تبحث. لا اليقين يهم ولا الإجابات. فقط عِش، واترك للحياة أن تروي قصتك.”
حين خرجت، شعرت بشيء من الراحة لم أعهدها، كأنني أخيرًا وجدت ما كنت أبحث عنه… حتى لو لم أكن أعرفه.